كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{إِنَّ الذين جَاءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ} الآية.
ذكر سبب نزول هذه الآيات وقصة الإفك.
أخبرنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسن بن محمد بن إسحاق المهرجان بقراءتي عليه فأقرّ به قال: أخبرنا أبو عوانة سنة ست عشرة وثلاثمائة قال: حدَّثنا محمد بن يحيى قال: حدَّثنا عبد الرزاق وأخبرنا أبو نعيم قال: أخبرنا أبو عوانة قال: حدَّثنا إسحاق بن إبراهيم الصنعاني قال: قرأنا على عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن الزهري قال: أخبرني سعيد بن المسيّب وعروة بن الزبير وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن حديث عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين قال لها أهل الافك ما قالوا فبرّأها الله وكلّهم، حدّثني بطائفة من حديثها وبعضهم كان أوعى له من بعض، وقد وعيت عن كلّ واحد الحديث الذي حدَّثني، وبعض حديثهم يصدّق بعضًا، ذكروا أنّ عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه فأيّتهنّ خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه.
قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك بعد ما أنزل الله سبحانه الحجاب، فأنا أُحمل في هودجي وأنزل منه مسيرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوه وقفل ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل فمشيت حتّى جاوزت الجيش، فلمّا قضيت شأني أقبلت إلى الرحل فلمست صدري فإذا عِقدي من جَزَع ظَفَار قد انقطع فرجعت فالتمست عقدي وحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون فحملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت، وهم يحسبون أنّي فيه.
قالت: وكانت النساء إذ ذاك خفافًا لم يُهبلهُنّ اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم ثقل الهودج حين رحلوه ورفعوه، وكنت جارية حديثة السنّ فبعثوا الجمل وساروا، ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب فتيمّمت منزلي الذي كنت فيه وظننت أن القوم سيفقدونني فيرجعون إليَّ، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيناي فنمت وكان صفوان بن المعطّل السلمي ثمَّ الذكواني قد عرّس من وراء الجيش، فأدلج فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم فأتاني فعرفني حين رآني، وقد كان رآني قبل أن يضرب عليَّ الحجاب فما استيقظت إلاّ باسترجاعه حين عرفني، فخمّرتُ وجهي بجلبابي، فوالله ما كلّمني كلمة عند استرجاعه حتى أناخ راحلته فوطيت على يدها فركبتها فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة، فهلك من هلك في شأني، وكان الذي تولّى كبره عبد الله بن أبي سلول فقدمت المدينة فاشتكيت من شدّة الحر حين قدمتها شهرًا والناس يخوضون في قول أهل الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك وهو يريبني في وجعي أن لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين اشتكي، إنما يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلّم ثمَّ يقول: كيف تيكم؟ ولا أشعر بالشر حتى خرجت بعدما نقهت وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع وهو مبترزنا فلا نخرج إلاّ ليلًا الى ليل وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبًا من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأُول التنزّه، وكنّا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا، فانطلقت أنا وأُم مسطح وهي عاتكة بنت أبي رهم بن عبد المطلب بن عبد مناف وأُمّها بنت صخر بن عامر خالة أبي بكر الصدِّيق وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب فأقبلت أنا وابنة أبي رهم قِبل بيتي حين فرغنا من شأننا فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت: تعس مسطح فقلت لها: بئس ما قلتِ، تسبّين رجلًا شهد بدرًا قالت: أي هنْتاه أولم تسمعي ما قال؟
قالت: قلت: وما ذي؟ قالت: فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضًا إلى مرضي فلمّا، رجعت إلى بيتي دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلّم ثمَّ قال: «كيف تيكم؟» قلت: أتأَذن لي أن آتي أبويّ؟ قالت: وأنا أُريد حينئذ أن أتيقّن الخبر من قِبلهما، فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أبويّ فقلت لأُمّي: يا أُمّه ماذا يتحدّث الناس؟.
فقالت: أي بنيّة هوّني عليك، فوالله لقلّ ما كانت امرأة قطّ وضيئة عند رجل يحبّها ولها ضرائر إلاّ أكثرن عليها، قلت: سبحان الله أو قد تحدّث الناس بهذا؟ قالت: نعم، قالت: فمكثت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، ثمَّ أصبحت أبكي، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليّ بن أبي طالب وأُسامة بن زيد حين استلبث الوحي واستشارهما في فراق أهله.
فأمّا أُسامة فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم في نفسه لهم من الودّ، فقال: يا رسول الله هم أهلك ولا نعلم إلاّ خيرًا، وأمّا عليّ فقال: لم يضيّق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك.
قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال: أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك من أمر عائشة؟ فقالت له بريرة: والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرًا قط أُغمضه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فيأتي الداجن فيأكله.
قالت: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول قال وهو على المنبر: «يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي، فوالله ما علمت على أهلي إلاّ خيرًا ولقد ذكروا رجلًا ما علمت عليه إلاّ خيرًا وما كان يدخل على أهلي إلاّ معي» فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: أعذرك يا رسول الله، إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك.
قالت: فقال سعد بن عبادة وهو سيّد الخزرج، وكان رجلًا صالحًا ولكن احتملته الحميّة فقال لسعد بن معاذ: كذبت لعمر الله، فقال سعد: والله لنقتله فإنك منافق تجادل عن المنافقين.
قالت: فثار الأوس والخزرج حتّى همّوا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا وسكت.
قالت: ومكثت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم، وأبواي يظنّان أنّ البكاء فالق كبدي.
قالت: فبينا هما جالسان عندي وأنا أبكي استأذنت عليَّ امرأة من الأنصار فأذنت لها فجلست تبكي معي، فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلّم ثمَّ جلس، قالت: ولم يجلس عندي منذ قيل لي ما قيل، وقد لبث شهرًا لا يوحى إليه في شأني، قالت: فتشهّد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ثمَّ قال: أما بعد يا عائشة فإنّه بلغني عنك كذا وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله سبحانه، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بالذنب ثمَّ تابَ تاب الله عليه.
قالت: فلمّا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دمعي حتى ما أحسّ منه قطرة، فقلتُ لأبي: أجب عنّي رسول الله قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقلتُ لأُمّي: أجيبي عنّي رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ من القرآن كثيرًا: إني والله لقد عرفت أنكم قد سمعتم بهذا الأمر حتّى استقرّ في أنفسكم وصدقتم به، فلئن قلت لكم إني بريئة والله سبحانه وتعالى يعلم أني بريئة لتصدقونني، والله ما أجد لي ولكم مثلًا إلاّ كما قال أبو يوسف وما أحفظ اسمه: فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون.
قالت: ثمَّ تحوّلت واضطجعت على فراشي، وأنا والله حينئذ أعلم أنّي بريئة وأن الله سبحانه مبرّئي ببراءتي ولكن، والله ماكنت أظنُّ أن ينزل في شأني وحي يُتلى ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلّم الله فيَّ بأمر يُتلى ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرّئني الله بها.
قالت: فوالله مارام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه ولا خرج من أهل البيت أحد حتى أُنزل الله سبحانه على نبيّه صلى الله عليه وسلم فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي حتى أنّه لينحدر منه مثل الجمان من العرق في اليوم الشاتي من ثقل الوحي الذي أُنزل عليه.
قالت: فلمّا سُرِّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك، فكان أوّل كلمة تكلّم بها أن قال: «أبشري يا عائشة أما والله فقد برّأك» فقالت لي أُمّي: قومي إليه فقلت: والله لا أقوم إليه ولا أحمدُ إلاّ الله سبحانه هو الذي أنزل براءتي. قالت: فأنزل الله سبحانه {إِنَّ الذين جَاءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ} عشر آيات وأنزل الله سبحانه هذه الآية لبراءتي.
قالت: فقال أبو بكر وكان ينفق على مسطح لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق عليه شيئًا أبدًا بعد الذي قال لعائشة، فأنزل الله سبحانه {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة} إلى قوله: {أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ} [النور: 22].
فقال أبو بكر رضي الله عنه: والله إني لأُحبّ أن يغفر اللّه لي، فرجع الى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال: لا أنزعها منه أبدًا.
قالت عائشة رضي الله عنها: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم ما علمت أو ما رأيت؟ فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلاّ خيرًا.
قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله سبحانه وتعالى بالورع، وطفقت أُختها حمنة بنت جحش تحارب لها فهلكت فيمن هلك.
قال الزهري: فهذا ما انتهى إلينا من هؤلاء الرهط.
وأخبرنا أبو نعيم قال: أخبرنا أبو عوانة قال: حدَّثنا محمد بن إسماعيل الصائغ بمكة ومحمد بن حرب المديني بالفسطاط قالا: حدَّثنا إسماعيل بن أبي أويس قال: حدّثني أبي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها، قال أبو أويس: وحدَّثني أيضًا عبد الله بن أبي بكر عن عمرة عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يسافر سفرًا أُقرع بين أزواجه فأيّتّهنَّ خرج سهمها خرج بها معه، فخرج سهم عائشة في غزوة النبي صلى الله عليه وسلم بني المصطلق من خزاعة، وذكر الحديث بطوله بمثل معناه.
وقال عروة في سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة عن عائشة قال: فانتهرها بعض أصحابه وقال: أصدقي رسول الله، قال عروة: فعيب ذلك على من قاله، فقالت: لا والله ما أعلم عليها إلاّ ما يعلم الصائغ على تبر الذهب الأحمر، ولئن كانت صنعت ما قال الناس ليخبرنّك الله، فعجب الناس من فقهها.
قال: وبلغ ذلك الذي قيل له فقال: سبحان الله، والله ما كشفت كتف أُنثى قط، فقتل شهيدًا في سبيل الله، وزاد في آخره قالت: وقعد صفوان بن المعطل لحسّان بن ثابت فضربه ضربة بالسيف وقال حين ضربه:
تلقَّ ذباب السيف عنّي فإنّني ** غلامٌ إذا هُوجيت لست بشاعر

ولكنني أحمي حماي وانتقم ** من الباهت الرامي البراء الظواهر

وصاح حسان بن ثابت واستغاث بالناس على صفوان، ففرَّ صفوان وجاء حسّان النبي صلى الله عليه وسلم فاستعدى على صفوان في ضربته إياه فسأله النبي صلى الله عليه وسلم أن يهب له ضرب صفوان إياه فوهبها للنبي صلى الله عليه وسلم فعوّضه منها حائطًا من نخل عظيم وجارية روميّة، ثمَّ باع حسان ذلك الحائط من معاوية بن أبي سفيان في ولايته بمال عظيم. قالت عائشة: فقيل في أصحاب الإفك أشعار.
قال أبو بكر الصدِّيق رضي الله عنه لمسطح في رميه عائشة رضي الله عنها وكان يُدعى عوفًا:
يا عوف ويحك هلاّ قلت عارفة ** من الكلام ولم تبغ به طمعا

فأدركتك حميًا معشر أنف ** ولم يكن قاطعًا في عوف قطعا

لما رميت حصانًا غير مقرفة ** أمينة الجيب لم نعرف لها خضعا

فيمن رماها وكنتم معشرًا إفكا ** في سيّىء القول من لفظ الخنا شرعا

فأنزل الله عذرًا في براءتها ** وبين عوف وبين الله ما صنعا

فان أعش أجز عوفًا في مقالته ** شرَّ الجزاء بما ألفيته تبعا

وقال حسّان بن ثابت الأنصاري ثم النجاري وهو يبرّئ عائشة ممّا قيل فيها ويعتذر إليها:
حصان رزان ما يزن برتبة ** وتصبح غرثى من لحوم الغوافل

حليلة خير الناس دينًا ومنصبًا ** نبيّ الهدى والمكرمات الفواضل

عقيلة حي من لؤي بن غالب ** كرام المساعي مجدها غير زايل

مهذبة قد طيّب الله خيمها ** وطهّرها من كل شين وباطل

فان كان ما قد جاء عنّي قلته ** فلا رفعت سوطي إليّ أناملي

وإنّ الذي قد قيل ليس بلائط ** بك الدهر بل قول إمرئ غير ماحل

وكيف وودّي ما حييت ونصرتي ** لآل رسول الله زين المحافل

له رتب عال على الناس فضلها ** تقاصر عنها سورة المتطاول

قال: وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالذين رموا عائشة فجلدوا الحدود جميعًا ثمانين، فقال حسّان بن ثابت:
لقد دان عبد الله ما كان أهله ** وحمته إذ قالوا هجيرا ومسطحُ

تعاطوا برجم القول زوج نبيّهم ** وسخطة ذا الرب الكريم فأبرحوا

وآذوا رسول الله فيها فعمموا ** مخازيَ ذُلَ جلّلوها وفضحوا

فهذا سبب نزول الآية وقصّتها. فأمّا التفسير فقوله عزَّ وجل: {إِنَّ الذين جَاءُوا بالإفك} بالكذب {عُصْبَةٌ} جماعة {مِّنْكُمْ}. قال الفرّاء: العصبة، الجماعة من الواحد إلى الأربعين.